الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الرحلة إلى الأندلس: ولما أجمعت الرحلة إلى الأندلس بعثت بأهلي وولدي إلى أخوالهم بقسنطينة وكتبت لهم إلى صاحبها السلطان أبي العباس من حفدة السلطان أبي يحيى وبأني أمر على الأندلس وأجيز عليه من هنالك وسرت إلى سبتة فرضة المجاز وكبيرها يومئذ الشريف أبو العباس أحمد بن الشريف الحسني ذو النسب الواضح السالم من الريبة عند كافة أهل المغرب انتقل سلفه إلى سبتة من صقلية وأكرمهم بنو العزفي أولا وصاهروهم ثم عظم صيتهم في البلد فتنكروا لهم وغربهم يحيى العزفي آخرهم إلى الجزيرة فاعترضتهم مراكب النصارى في الزقاق فأسروهم وانتدب السلطان أبو سعيد إلى فديتهم رعاية لشرفهم فبعث إلى النصارى في ذلك فأجابوه وفادى هذا الرجل وأباه على ثلاثة آلاف دينار ورجعوا إلى سبتة وانقرض بنو العزفي ودولتهم وهلك والد الشريف وصدر هو إلى رياسة الشورى لما كانت واقعة القيروان وخلع أبو عنان أباه واستولى على المغرب وكان بسبتة عبد الله بن علي الوزير واليا من قبل السلطان أبي الحسن فتمسك بدعوته ومال أهل البلد إلى السلطان أبي عنان وبث فيهم الشريف دعوته فثاروا بالوزير وأخرجوه ووافدوا على أبي عنان وأمكنوه من بلدهم فولى عليها من عظماء دولته سعيد بن موسى العجيسى كان كافل تربيته في صغره وأفرد هذا الشريف برياسة الشورى في سبتة فلم يكن يقطع أمرا دونه ووفد على السلطان بعض الأيام فتلقاه من المبرة بما لا يشاركه فيه أحد من وفود الملوك والعظماء ولم يزل على ذلك سائر أيام السلطان وبعد وفاته وكان معظما وقور المجلس هش اللقاء كريم الوقادة متحليا بالعلم والأدب منتحلا للشعر غاية في الكرم وحسن العهد وسذاجة النفس ولما مررت به سنة أربع وستين وسبعمائة أنزلني ببيته أزاء المسجد الجامع ورأيت منه ما لا يقدر مثله من الملوك وأركبني الحراقة ليلة سفري يباشر دحرجها إلى الماء بيده إغرابا في الفضل والمساهمة وحططت بجبل الفتح وهو يومئذ لصاحب المغرب ثم خرجت منه إلى غرناطة وكتبت للسلطان ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب بشأني وليلة بت بقرب غرناطة على بريد منها لقيني كتاب ابن الخطيب يهنئني بالقدوم ويؤنسني ونصه:أقسمت بمن حجت قريش لبيته وقبر صرفت أزمة الأحياء لميته ونور ضربت الأمثال بمشكاته وزيته لو خيرت أيها المحب الحبيب الذي زيارته الأمنية السنية والعارفة الوارفة واللطيفة المطيفة بين رجع الشباب يقطر ماؤه ويرف نماؤه ويغازل عيون الكواكب فضلا عن الكواعب إشارة وإيماء بحيث لا آلو في حظ يلم بسياج لمته أو يقدح ذباله في ظلمته أو يقدم حواريه في ملمته من الأحابش وأمته وزمانه روح وراح ومغدى في النعيم مراح وخصب صراح ورنى وجراح وانتخاب واقتراح وصدر ما به إلا انشراح ومسرات يردفها أفراح وبين قدومك خليع الرسن ممتعا والحمد لله باليقظة والوسن محكا في نسك الجنيد أو فتك الحسن ممتعا بظرف المعارف مالئا آلف الصيارف ماحيا بأنوار البراهين شبه الزخارف لما اخترت الشباب وإن شاقني زمنه وأعياني ثمنه وأجرت سحاب دمعي دمنه فالحمد لله الذي رفأ حنوه اغترابي وملكني أزمة آرابي وغبطني بمالي وترابي ومألف أترابي وقد أغصني بلذيذ شرابي ووقع على سطوره المعتبرة إضرابي وعجلت هذه مغبطة بمناخ المطية وملتقى للسعود غير البطية وتهني الآمال الوثيرة الوطية فما شئت من نفوس عاطشة إلى ريك متجملة بزيك عاقلة خطي سمهريك ومولى مكارمه مشيدة لأمثالك ومضان منالك وسيصدق الخبر ما هنالك ويسع فضل مجدك في التخلف عن الإصحار لا بل اللقاء من وراء البحار والسلام.ثم أصبحت من الغد قادما على البلد وذلك ثامن ربيع الأول عام أربعة وستين وسبعمائة وقد اهتز السلطان لقدومي وهيأ لي المنزل من قصوره بفرشه وما عونه وأركب خاصته للقائي تحفيا وبرا مجازاة بالحسنى ثم دخلت عليه فقابلني بما يناسب ذلك وخلع علي وانصرفت وخرج الوزير ابن الخطيب فشيعني إلى مكان نزلي ثم نظمني في علية أهل مجلسه واختصني بالنجاء في خلوته والمواكبة في ركوبه والمواكلة والمطاية والمفاكهة في خلوات أنسه وأقمت عنده وسفرت عنه سنة خمس وستين وسبعمائة إلى الطاغية ملك قشتالة يومئذ بطرة بن الهنشة بن أدفونش لإتمام عقد الصلح ما بينه وبين ملوك العدوة بهدية فاخرة من ثياب الحرير والجياد والمقربات بمراكب الذهب الثقيلة فلقيت الطاغية بإشبيلية وعاينت آثار سلفي بها وعاملني من الكرامة بما لا مزيد عليه وأظهر الاغتباط بمكاني وعلم أولية سلفنا بإشبيلية وأثنى علي عنده طبيبه إبراهيم ابن زرور اليهودي المقدم في الطب والنجامة وكان لقيني بمجلس السلطان أبي عنان وقد استدعاه يستطبه وهو يومئذ بدار ابن الأحمر بالأندلس ثم نزع بعد مهلك رضوان بن القائم بدولتهم إلى الطاغية فأقام عنده ونظمه في أطبائه فلما قدمت أنا عليه أثنى علي عنده فطلب الطاغية حينئذ المقام عنده وأن يرد علي تراث سلفي بإشبيلية وكان بيد زعماء دولته فتفاديت من ذلك بما قبله ولم يزل على اغتباطه إلى أن انصرفت عنه فزودني وحملني واختصني ببغلة فارهة بمركب ثقيل ولجام ذهبيين أهديتهما إلى السلطان فأقطعني قرية البيرة من أراضي السقي بمرج غرناطة وكتب لي بها منشورا كان نصه ثم حضرت ليلة المولد النبوي لخامسة قدومي وكان يحتفل في الصنيع فيها والدعوة وإنشاد الشعر اقتداء بملوك المغرب فأنشدته ليلتئذ: ومنها في وصف الإيوان الذي بناه لجلوسه بين قصوره: ومنها في التعريض بمنصرفي من العدو: وأنشدته سنة خمس وستين وسبعمائة في إعذار ولده والصنيع الذي احتفل لهم فيه ودعا إليه الجفلى من نواحي الأندلس ولم يحضرني منها إلا ما أذكره: ومنها في تقدم ولده للاعذار من غير نكول: ومنها في الثناء على ولديه: وأنشدته ليلة المولد الكريم من هذه السنة: ولما استقر القرار واطمأنت الدار وكان من السلطان الاغتباط والاستبشار وكثر الحنين إلى الأهل والتذكار أمر لاستقدام أهلي من مطرح اغترابهم من قسنطينة بعث إليهم من جاء بهم إلى تلمسان وأمر قائد الأسطول بالمرية فسار في إجازتهم في أسطوله واحتلوا بالمرية واستأذنت السلطان في تلقيهم وقدمت بهم على الحضرة بعد أن هيأت لهم المنزل والبستان ودمنة الفلح وسائر ضروريات المعاش.وكتبت إلى الوزير ابن الخطيب عندما قاربت الحضرة وقد كتبت إليه أستأذنه في القدوم وما اعتمده في أحواله:سيدي قدمت بالطير اليمانين على البلد الأمين واستضفت الرفاء إلى البنين ومتعت بطول السنين وصلتني البراءة المعربة عن كتب اللقاء ودنو المزار وذهاب البعد وقرب الديار وأستفهم سيدي عما عندي في القدوم على المخدوم وأحب أن يستقدمني سيدي إلى الباب الكريم في الوقت الذي يجد المجلس الجمهوري لم يقض حجيجه ولم يصخ بهيجه ويصل الأهل بعده إلى المحل الذي هيأته السعادة لاستقرارهم واختاره اليمن قبل اختيارهم والسلام.ثم لم يلبث الأعداء وأهل السعايات أن حملوا الوزير ابن الخطيب من ملابستي للسلطان واشتماله علي وحركوا له جواد الغيرة فتنكر وشممت منه رائحة الانقباض مع استبداده بالدولة وتحكمه في سائر أحوالها وجاءتني كتب السلطان أبي عبد الله صاحب بجاية بأنه استولى عليها في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة واستدعاني إليه فاستأذنت السلطان ابن الأحمر في الارتحال إليه وعميت عليه شأن ابن الخطيب إبقاء للمودة فارتمض لذلك ولم يسعه إلا الاسعاف فودع وزود وكتب لي مرسوما بالتشييع من إملاء الوزير ابن الخطيب نصه:هذا ظهير كريم تضمن تشييعا وترفيعا وإكراما وإعظاما وكان لعمل الصنيع ختاما وعلى الذي أحسن تماما وأشاد به للمعتمد به بالاغتباط الذي راق قساما وتوفر إقساما وأعلق بالقبول أن نوى بعد القوى رجوعا وآثر على الظعن المزمع مقاما أمر به وأمضى العمل بمقتضاه وحبسه الأمير أبو عبد الله ابن مولانا أمير المسلم ين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد بن نصر أيد الله أمره وأعز نصره وأعلى ذكره للولي الجليس الحظي المكين المقرب الأود الابن الفقيه الجليل الصدر الأوحد الرئيس العالم الفاضل الكامل الموقع الأمين الأظهر الأرضى الأخلص الأصفى أبي زيد عبد الرحمن ابن الشيخ الجليل الحسيب الأصيل المرفع المعظم الصدر الأوحد الأسمى الأفضل الموقر المبرور أبي يحيى ابن الشيخ الجليل الكبر الرفيع الماجد القائد الحظي المعظم الموقر المبرور المرحوم أبي عبد الله بن خلدون وصله إليه أسباب السعادة وبلغه من فضله أقصى الإرادة أعلن بما عنده أيده الله من الاعتقاد الجميل في جانبه المرفع وإن كان غنيا عن الإعلان وأعرب عن معرفة مقداره في الحسبان العلماء الرؤساء الأعيان وأشاد باتصال رضاه عن مقاصده البرة وشيمه الحسان من لدن وفد على بابه وفادة العز الراسخ البنيان وأقام المقام الذي عين له رفعة المكان وإجلال الشان إلى أن عزم على قصد وطنه أبلغه الله في ظل الأمن والأمان وكفالة الرحمن بعد الاغتباط المربي على الخير بالعيان والتمسك بجواره بجهد الإمكان ثم قبول عذره بما جبلت الأنفس عليه من الحنين إلى المعاهد والأوطان بعد أن لم يدخر عنه كرامة رفيعة ولم يحجب عنه وجه صنيعه فولاه القيادة والسيادة وأحله جليسا معتمدا بالاستشارة ثم أصحبه تشييعا يشهد بالضنانة بفراقه ويجمع له بر الوجاهة من جميع آفاقه ويجعله بيده رثيمة خنصر ووثيقة سامع أو مبصر فمهما لوى أخدعه إلى هذه البلاد بعد قضاء وطره وتمليه من نهمة سفره أو نزع به حسن العهد وحنين الود فصدر العناية به مشروح وباب الرضا والقبول مفتوح وما عهده من الحظوة والبر ممنوح فما كان القصد في مثله من أمجاد الأولياء التحول ولا الاعتقاد الكريم التبدل ولا الزمن الأخير أن ينسخ الأول على هذا فليطو ضميره وليرد ما شاء نميره ومن وقف عليه من القواد والأشياخ والخدام برا وبحرا على اختل إلى الخطط والرتب وتباين الأحوال والنسب أن يعرفوا حق هذا الاعتقال في كل ما يحتاج إليه من تشييع ونزول وإعانة وقبول واعتناء موصول إلى أن يكل الغرض ويؤدي من امتثال هذا الأمر الواجب المفترض بحول الله وقوته.وكتب في التاسع عشر من جمادى الأولى عام ست وستين وسبعمائة.وبعد التاريخ العلامة بخط السلطان ونصها صح هذا.
|